الأعياد أيام تعود على مر السنين .. اعتادت الشعوب على احيائها .. بها تسترجع ذكرى ما قام عليه ذلك العيد .. فتحيى بها قلوب الأمم ..
في مثل هذا اليوم تحررت بلدنا العزيز الكويت من جيش ظالم نزح عليها في ظلام الليل .. واستباح كل شيئ فيها .. فانقلبت الكويت من واحة خضراء وحديقة غنّاء إلى مكب للنفايات تحرق فيها المخلفات ويسكر حولها الذباب ..
وبعدما كان هواء الكويت ينتشي بعطر السلام أصبح بين عشية وضحاها مليئا برائحة البارود التي لا زالت أشمها في أنفي ..
لا زالت تلك المناظر تبرق في عيني .. زحام حول المخبز .. وصيحات الخبازين تعلو لترتيب المتزاحمين .. لكن تلك الصيحات لم تكن باللغة الفارسية.. كانت بلهجتنا المحلية .. من كان الخبازون ؟؟ كانوا شباب كويتيون اعتادوا على التمشي في شوارع فهد السالم (أيام الكشخة) وسالم المبارك دون هدف .. لا يعكر مزاجهم سوى دورية شرطة نوع كابرس طراز 1987.. صافرتها تخرم طبلة الأذن وهي تزجرهم لأن لا يضايقوا العوائل .. ولكنهم اليوم تبدلوا !!
هؤلاء الشباب هم أنفسهم من صار يعجن الخبز الأسمر.. ويضرب بكفه في تنور مسجور تنصهر عند حرارته كل سفاسف الأمور ، ولا يحيا عند فوهته غير الجد والعزم والصبر ..
هم نفسهم من أصبح يقود سيارة جمع القمامة .. تلك السيارة الضخمة التي تحتاج إلى إثتى عشر تعشيقة في "الجير" لتصل إلى مكب النفايات في إحدى براحات (ساحات) منطقة صبحان المحاطة بكتائب الحرس الجمهوري الصدامي من ذوي البريهات (القبعات) الحمر !!
تحررت الكويت .. ولازال ذاك المنظر يبرق في عيني في يوم التحرير.. خيرات السماء تهل ممطرة .. كأنما السحاب حبس أنفاسه طيلة الشهور الماضية .. حتى خر بكل ما عنده ساعة التحريرليبلل الشوارع ويملا الخنادق التي صنعها الجيش الصدامي على طول الواجهة البحرية ، فاختلط الماء برصاصات "الكلاشنكوف" وقذائف "الآر بي جي" المتبعثر هنا وهناك على طول البحر بين الجزيرة الخضراء إلى ساحة العلم !
لا زال ذاك المنظر في عيني .. كنت على سطح المنزل .. أملئ خزان الماء من مصنع "الوطنية".. كانت شعيرات الفيبر جلاس من هذا الخزان تأكل جسمي !! كان بيتنا مطلا على مدرسة آمنة الإبتدائية في منطقة الدسمة .. وفي تلك اللحظة ، لمحت مجموعة من الشباب تركض في المدرسة يمنة ويسرة .. أحدهم يعلق علم أعرفه.. لكنني لم أره فوق سارية منذ أمد طويل .. صعقت !!!! كان هذا علم بلدي الكويت !!!
أسرعت في النزول لأخبر الوالد رحمه الله .. وإذا بمنظر أغرب في شارع منزلنا .. رأيت جارتنا .. وهي من جنسية آسيوية .. كانت طاعنة في السن .. إذا لم يخب ظني فهي في الثمانينات من عمرها .. بيد هذه العجوز الشريفة رزم من أعلام الكويت تفرقها على الكوييتين ممن يمرون بناحيتها .. ولا أذكر أن كان لهذا العجوز أي صوت .. سوى صوت أوراق الأعلام وصور الأمير الراحل.
كان جميع من تبقى في فريجنا (حيّنا) قد اجتمع مذهولا في وسط الشارع .. وإذا بآسيوي شريف آخر .. قد اتى على عجلة ليخبرنا بأن علم الكويت قد نصب على سارية مخفر المنطقة .. لآ أذكر من ذلك الحين إلا وأن الدنيا لم تكن تسعني فرحا ، وكانت عيناي قد اغرورقتا من الدمع !!
كنت حينها قد افتتحت ورشة لتصليح الدراجات الهوائية بما كان قد تبقى من خردة وقطع غيار صدئة في منزلنا .. أتى جارنا العزيز يبحث عن تيوب (أنبوب مطاط) قياس 12 "إنش" لإطار دراجته الهوائية التي ثقبت في طريقه ليشتري الخبز الإيراني .. كان ذلك الطلب غير متوفر فواعدته بأن أتي له بالحل خلال ساعة .. وفعلا !!
بحثت في الخردة .. فوجدت تيوب لعجلة دراجته .. لكنه للأسف كان مثقوبا !! ولم يكن محل قطع غيار الدرجات الكائن أمام سينما الحمراء في الشرق مفتوحا !! وجدت الحل !! قمت بتعبئة التيوب بنقيع الكركم ..نعم الكركم الذي نستخدمه في الأكل سيما في مرق البامية..
كان للكركم فعل كالسحر في الثقوب الدقيقة لإطارات الدرجات خصوصا حينما نقوم بلف الإطار بسرعة كبيرة (بعد صب نقيع الكركم) ..
أوصلت ذلك الإطار بعد تركيب التيوب فيه إلى جارنا العزيز .. وسألني عن الحساب فطلبت ديناراً عراقيا واحداً ، إذ إن السلطة العراقية حينئذ قد منعت التعامل بالعملة الكويتية .. إلا أن يكون سعر الصرف واحداً بواحد .. ديناراً كويتيا بدينار عراقي ..
أوصلت الإطار إليه واستغرب من السعر الزهيد .. فقلت له بأن إطاره قد تم تصليحه بنقيع الكركم .. فضحك وعاد ليركِّب الإطار على الدراجة بنفسه .. فلا خادم يساعده ، ولا خادمة تنظف المكان من أثر الصنقل (الزنجير) المنقوع بزيت عبادالشمس ماركة "كلارا" !!
بفضل عزيمة وهمة وثبات ..
لنعيد الألفة والمحبة بين الناس و نبيت في هناء وسبات ..
No comments:
Post a Comment